تكريت: جوهرة بلاد الرافدين على ضفاف دجلة

ADVERTISEMENT

تقع مدينة تكريت في قلب العراق، على الضفة الغربية لنهر دجلة، وتبعد حوالي 140 كيلومتراً شمال بغداد. ورغم صغر حجمها نسبيًا، فإنها تلعب دورًا تاريخيًا وسياسيًا يفوق مساحتها الجغرافية. امتزجت عبر تاريخها الطويل بحضارات آشورية وبابلية، وصار اسمها مرتبطًا بمزيج فريد من الشخصيات التي غيرت مجرى التاريخ، كصلاح الدين الأيوبي وصدام حسين.

عرفت تكريت بكونها موقعًا حصينًا منذ العصور القديمة، وتحوّلت لاحقًا إلى مركز ديني وثقافي خلال العصور المسيحية المبكرة، ثم احتضنت فجر الدولة الأيوبية. في العصر الحديث، أصبحت رمزًا مثيرًا للجدل في ظل النظام البعثي، وواجهت الكثير من التحديات الأمنية والاجتماعية بعد الاحتلال الأمريكي وسقوط نظام صدام.

تكريت ليست مجرد نقطة على الخريطة، بل سجل حي لتحولات بلاد الرافدين. تمثل في حاضرها توازنًا هشًّا بين التاريخ المجيد والواقع المعقّد. في هذه المقالة، نغوص في أربعة محاور رئيسية تسلّط الضوء على الأبعاد المتعددة لهذه المدينة، من أصولها القديمة إلى محطات شهرتها الكبرى، وصولًا إلى واقعها اليوم وتطلعاتها المستقبلية.

ADVERTISEMENT

الحصن القديم ونشأة المدينة

بدأت تكريت كحصن دفاعي في العصور الآشورية، وكانت تشكّل حاجزًا طبيعيًا بين القوى المتنازعة في شمال بلاد الرافدين. مع مرور الزمن، أصبحت أكثر من مجرد نقطة تحصين؛ تحولت إلى مستوطنة دائمة، وتطورت عمرانياً، خصوصًا خلال العصور الهلنستية، حيث عُرفت باسم "بيرثا".

مع بروز الإسلام، دخلت المدينة مرحلة جديدة، إذ أصبحت محطة رئيسية في طرق التجارة والحج، وازداد دورها الإداري ضمن الإمبراطوريات الإسلامية. بنيت فيها أسوار، وازدهرت فيها الأسواق، ما جعلها نقطة وصل بين الشمال العراقي والجنوب. موقعها الاستراتيجي على ضفاف دجلة ساعدها على البقاء رغم الحروب والاجتياحات.

تكريت في هذه المرحلة لم تكن مجرد بلدة، بل صارت رمزًا للصمود، وموطنًا لقبائل وتجمعات شكلت النواة الاجتماعية للمدينة الحالية. في هذا الإطار، يمكن فهم كيف نشأت في المدينة طبقات متعدّدة من الهوية، مما مهّد لاحقًا لدورها الديني والسياسي والثقافي عبر القرون التالية.

ADVERTISEMENT
بواسطة رياض الجابر على Wiki

حصن تاريخي في تكريت

المركز المسيحي والكنيسة الخضراء

في القرون الوسطى، برزت تكريت كمركز مسيحي مهم في منطقة بلاد ما بين النهرين. فقد كانت مقرًا للمفريانية السريانية الأرثوذكسية، أحد أعلى المناصب الدينية في الكنيسة الشرقية، وكان أسقفها يتمتع بنفوذ ديني امتد من نينوى إلى أذربيجان.

الكنيسة الخضراء، التي بُنيت في القرن السابع، كانت قلب هذا النشاط الروحي. عُرفت بجمالها المعماري ومكتباتها اللاهوتية. أصبحت منبرًا للترجمة والنقاشات الفكرية في زمن كان الصراع المذهبي يعصف بالمنطقة. وقد جذبت إلى المدينة مفكرين ورهبانًا، مما عزز دورها كمركز ثقافي أيضًا، وليس فقط ديني.

لكن العصر الذهبي انتهى مع اجتياح المغول في القرن الثالث عشر، حيث دمرت الكنيسة وخُرّبت البنى الدينية. ورغم محاولات لاحقة لإعادة بنائها، مثل ترميمها في عام 2000، عادت لتتعرّض للتدمير مرة أخرى على يد تنظيم داعش في 2014، مما شكّل خسارة كبيرة للتراث العراقي المسيحي.

ADVERTISEMENT

ورغم الدمار، ما تزال ذاكرة الكنيسة حاضرة، ويطالب الكثير بإعادة ترميمها ليس فقط كمعلم ديني، بل كمؤشر على التعايش الديني الذي ميز المدينة في فترات طويلة من تاريخها.

بواسطة رياض الجابر على Wiki

الكنيسة الخضراء في تكريت

صلاح الدين الأيوبي وبداية الأسطورة

في عام 1137، شهدت تكريت ولادة إحدى أبرز الشخصيات في التاريخ الإسلامي: صلاح الدين الأيوبي. هذا القائد، الذي سيُعرف لاحقًا بتحريره للقدس من الصليبيين، بدأ حياته في بيئة عسكرية نُسجت خيوطها الأولى في تكريت، حيث كان والده نجم الدين والياً على المدينة.

الطفولة التي قضاها صلاح الدين هنا لم تكن طويلة، لكنه حمل معه أثرها في تشكيل شخصيته. اكتسب فيها مبادئ الشجاعة والانضباط، والتي ظهرت لاحقًا في حملاته الكبرى بمصر والشام. ولاحقًا، ستصبح تكريت مرجعية مرتبطة باسمه، حتى أن المحافظة التي تتبع لها المدينة اليوم تُعرف بـ"محافظة صلاح الدين".

ADVERTISEMENT

ترك صلاح الدين بصمة لا تُنسى، ليس فقط في الساحة العسكرية، بل في الثقافة الإسلامية بأكملها. وشكّلت تكريت بذلك نقطة الانطلاق الأولى لحقبة طويلة من الفخر القومي والديني في المنطقة. هذا الإرث لا يزال يُدرّس في المدارس ويُحتفل به في المناسبات، وتُزين صوره المباني العامة تخليدًا له.

بواسطة unknown على Wiki

رسم تخيلي لولادة صلاح الدين في العراق

صعود صدام حسين وسقوطه

شهدت تكريت، وتحديدًا قرية العوجة، ميلاد شخصية أخرى أثرت على تاريخ العراق الحديث: صدام حسين، الذي وُلد عام 1937. ارتبط اسم صدام بتكريت ارتباطًا وثيقًا، لدرجة أن أفراد حاشيته المقربين كانوا في الغالب من أبناء مدينته.

أثناء حكمه، حظيت تكريت باهتمام خاص، وشُيدت فيها قصور ضخمة ومنشآت خدمية. ومع اجتياح الولايات المتحدة للعراق في 2003، أصبحت المدينة معقلًا رئيسيًا للمقاومة، واحتلت مكانة رمزية في المشهد العسكري والسياسي. كانت آخر مدينة رئيسية تسقط بيد القوات الأمريكية، وفيها تم القبض على صدام نفسه في ديسمبر 2003.

ADVERTISEMENT

وفي السنوات التالية، واجهت المدينة أزمات متتالية، منها اجتياح تنظيم داعش عام 2014، وارتكابهم مذبحة معسكر سبايكر الشهيرة. لكنها تحررت في 2015 بجهود مشتركة من القوات العراقية والحشد الشعبي.

اليوم، تحمل المدينة إرثًا مزدوجًا: فهي مهد حكم دام أكثر من عقدين، لكنها أيضًا رمز للمقاومة والانبعاث من جديد. تحاول السلطات حاليًا تحويل بعض المواقع المرتبطة بصدام إلى متاحف وطنية، في محاولة لفهم الماضي دون تمجيده.

بواسطة Looper5920 على Wiki

قصر صدام

تكريت ليست مدينة عادية. إنها شاهد حي على تقلبات تاريخ العراق، من الأزمنة السحيقة إلى زمن الدولة الحديثة. من حصن آشوري صغير إلى مهد لأهم الشخصيات في العالم الإسلامي، ومن مركز مسيحي متنوع إلى ساحة معارك في القرن الحادي والعشرين.

اليوم، وبعد سنوات من الحرب والدمار، تحاول تكريت أن تستعيد مكانتها. تسعى إلى ترميم آثارها، وإنعاش هويتها الثقافية والدينية، والانفتاح على التنمية السياحية والتعليمية. قد تكون تحدياتها كبيرة، لكن ما يميزها هو قدرتها التاريخية على البقاء والنهوض، في كل مرة تُدمَّر فيها.

ADVERTISEMENT

تكريت ليست مجرد مدينة وُلد فيها صلاح الدين وصدام حسين، بل هي رمز لتعدد العراق، لإرثه المتشابك، ولنضال شعبه من أجل العيش بكرامة. إنها حكاية مدينة لا تنكسر.

أكثر المقالات

toTop